تاريخ السري للسوق السوداء للدولار في مصر..لم تظهر قبل 1967
لم تعرف مصر قبل عام 1967 طريقا لأزمات العملة الصعبة أو شح الدولار حتى في أحلك مواقفها عند بناء السد العالي، فالسوق السوداء للدولار ظهرت لأول مرة في مصر بعد حرب 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف وصولا إلى حرب أكتوبر 1973، حيث الفترة التي عانت منها مصر من ندرة حقيقية للدولار بفعل نقص موارد العملة الصعبة، سواء السياحية أو عائدات قناة السويس التي تم إغلاق المرور بها لظروف الحرب.
قناة السويس مصدرأساسي للدولار
ووفقا لبيانات هيئة قناة السويس توقفت الملاحة في القناة بسبب العدوان الإسرائيلي في 5 يونيو 1967، واستمر الوضع كذلك حتى أعلن الرئيس أنور السادات في خطابه التاريخي في مجلس الشعب (29 مارس 1975) إعادة فتح قناة السويس وقال: « إنني لا أريد لشعوب العالم التي تهتم بالقناة معبراً لتجارتها أن تتصور بأن شعب مصر يريد عقابها لذنب لم تقترفه، إنهم جميعاً أيدونا ونحن نريد قناتنا كما يريدونها طريقاً لازدهارنا، سوف نفتح قناة السويس ونحن قادرون على حمايتها نفس قدرتنا على حماية مدن القناة التي قمنا ونقوم بتعميرها، فلقد مضى ذلك العهد الذي كانت فيه المسافات حائلاً دون العدوان » .
وفي 5 يونيو 1975 أعيد افتتاح القناة للملاحة العالمية، وقال السادات في خطاب تاريخي: « أعلن لابن هذه الأرض الطيبة الذي شق القناة بعرقه ودموعه، همزة للوصل بين القارات والحضارات، وعبرها بأرواح شهدائه الأبرار لينشر السلام والأمان على ضفافها، يعيد فتحها اليوم للملاحة من جديد، رافداً للسلام وشريانا للازدهار والتعاون بين البشر» .
روافد العملة الصعبة
منذ ذلك الحين بدأت مصر في الاعتماد على إيرادات قناة السويس كأحد روافد العملة الصعبة للبلاد خاصة الدولار، وتدرج العائد من بضعة ملايين من الدولارات إلى أن تجاوز 8 مليارات دولار في 2023.
لكن رياح التوترات السياسية في الشرق الأوسط لم تأت بما تشتهي سفن قناة السويس، واندلعت الحرب في غزة واشتعلت التوترات في البحر الأحمر وقال الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، إن إيرادات القناة انخفضت 40% منذ بداية العام مقارنة بعام 2023، بعد أن أدت هجمات الحوثيين في اليمن على سفن إلى تحويل مسار إبحارها بعيدا عن هذا الممر.
ظهور السوق السوداء للدولار في مصر
بالعودة لأزمة قناة السويس العالمية وحرب أكتوبر شهدت مصر نقصا حادا في العملات الأجنبية، وكانت هناك مشكلة كبيرة في الاستيراد بسبب النقد الأجنبي المحدود لدى الدولة، ما أنعش السوق السوداء لتلبية احتياجات تلك الواردات، ومنذ ذلك الحين أصبحت السوق السوداء واقعا داخل الاقتصاد المصري.
ومنذ السبعينات لم تهدأ تعاملات السوق السوداء، إلا خلال فترات قصيرة عند وجود ثبات في سعر صرف العملة، وعند قيام المركزي بدوره في منح الأفراد والشركات حرية الحصول على النقد الأجنبي، وكانت تلك الفترات بين عام 1991 وعام 1997، وبين عامي 2005 و2009، وخلال النصف الثاني من عام 2017 حتى عام 2020، وبخلاف تلك الفترات كان نشاط السوق السوداء سائدا، وفقا لشاشات تسعير الدولار بالبنك المركزي المصري.
أزمة توفير العملة الصعبة
في منتصف الثمانينيات واجهت مصر أزمة حقيقية في توفير العملة الصعبة، وهو ما يتناقض مع الزيادة الكبيرة في أموال العاملين المصريين القادمين من دول النفط بفضل انتعاشه اقتصاد الدول التي يعملون بها، إلا أنهم كانوا يفضلون ادخارها كدولارات “تحت البلاطة” كما هو شائع بالعامية المصرية، أو بيعها لتجار العملة في السوق الموازي، حتى إن البنوك المصرية كانت تلجأ إلى تجار السوق الموازي لتدبر لها احتياجاتها من الدولارات، من أجل تسديد ديونها.
تجار العملة في مصر
في الثمانينيات ظهرت مكاتب تجارة العملة بقوة وتشعب رهيب في مصر، وكان بطل هذه المرحلة سامي علي حسن بطل أكبر قضية يحقق فيها جهاز المدعي الاشتراكي وقتها وعمره 31 عاما حينئذ.
ووفقا لأرشيف هذه القضية التي تم تداوله على نطاق إعلامي واسع في مصر فـ”سامي” تم وصفه بأكبر تاجر عملة في فترة الثمانينيات ولقبوه بإمبراطور الدولار، الذي وصفته تحريات مباحث الأموال العامة في ذلك الوقت بأنه “يمثل بشخصه بنكا خاصا من حيث ضخامة الأموال الأجنبية التي يتعامل بها يوميا، التي تفوق حجم استثمارات البنوك الكبرى”، وتمت إحالة القضية لمحكمة القيم وعرفت باسم “محاكمة تجار العملة وانحرافات البنوك”، وقررت فرض الحراسة على أمواله، التي رفعت في سبتمبر 2006.
أحداث يناير الشهيرة
مع تآكل الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في مصر عقب أحداث يناير الشهيرة التي أعقبها وصول الإخوان للحكم في مصر وما تلاها من أحداث مأساوية خلفت سقوطا مدويا للجماعة المنحلة، بدأت حرب جديدة على اقتصاد مصر أبطالها فلول الجماعة الإرهابية “كما تم تصنيفها بالقاهرة”، وكشفت دراسة حديثة لمركز تريندز للبحوث والدراسات، تحت عنوان “اقتصاد جماعة الإخوان ومدى تأثره بأزمات رأس المال المُعولم”، عن أن تجارة العملة مصدر أساسي لتمويل أنشطة الإخوان، خصوصاً بعد نجاحهم في خلق مناخ آمن لتداول أموالهم داخلياً وخارجياً بعيداً عن رقابة البنوك والحكومات، كما أنّ عدداً من المنتمين للإخوان قاموا بشراء الدولار من المصريين العاملين في الخارج مقابل تسليمهم الثمن بالجنيه في مصر بأسعار مبالغ فيها، وساهم ذلك بتهديد الاقتصاد المصري.
هذه الظاهرة وصفها محللون اقتصاديون بالحرب القذرة، التي أشعلت السوق السوداء للدولار في مصر، ليصل في يناير 2023 إلى ما فوق الـ70 جنيها وسط مساع من الحكومة المصرية لاحتواء الأزمة التي باتت مركبة، بحسب وصف الدكتور عبدالمنعم السيد مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، الذي قال إن تاريخ السوق السوداء للعملة في مصر تجاوز عمره الـ40 عاما، لافتا إلى أن لكل مرحلة من مراحل هذا السوق لها ملامحها الخاصة إلا أن العامل المشترك بين عهود تجارة العملة في مصر هم تجار الأزمات.
تعويم الجنيه المصري
مع جشع تجار العملة في مصر وبعض الأطراف الراغبة في تفاقم الأزمة اتخذت مصر قرارات تتعلق بالسيطرة على انفلات أسعار صرف الدولار بالسوق المحلية أبرزها تحرير سعر الصرف أو ما يعرف بـ”تعويم الجنيه” .
التعويم ماذا يعني ؟
تعويم الجنيه هو عملية تحرير سعر صرف العملة بالكامل، بحيث لا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي في تحديد سعر الصرف، ليحدد العرض والطلب على العملة سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية، وتحديدا الدولار.
وقد يكون التعويم حرا أو موجها، فالتعويم الحر يتم عندما يتحدد سعر الصرف وفقا للعرض والطلب فقط، أما التعويم الموجه فهو عندما يترك سعر الصرف للعرض والطلب، لكن البنك المركزي يتدخل لتوجيهه باتجاه معين، وذلك من خلال التأثير على حجم العرض من العملات الأجنبية أو حجم الطلب عليها.
كم مرة عوّمت مصر الجنيه؟
كان عام 1977 هي المرة الأولى التي حررت مصر فيها عملتها بشكل مدار حين سمح الرئيس الراحل أنور السادات، بعودة البطاقات الاستيرادية للقطاع الخاص، وبدء حقبة الاقتراض من الغرب، التي تحولت بعد ذلك لما يسمى ديون نادي باريس، لكن مع عدم قدرة السادات على تحرير الموازنة العامة سنة 1977 وعدم استمرار تدفق استثمارات الخليج والضعف الاقتصادي العام حدثت أزمات الدولار مرة أخرى، وتحرك الدولار رسميا من 1.25 جنيه إلى نحو 2.5 جنيه.
تعويم الجنيه للمرة الثانية في 2003
في عام 2003 قررت الحكومة برئاسة عاطف عبيد “وقتها” تعويم الجنيه، أي إطلاق الحرية لمعاملات العرض والطلب في السوق بتحديد سعر صرف الجنيه وفك ارتباطه بالدولار.
وارتفع سعر الدولار بعد قرار التعويم إلى 5 جنيهات و50 قرشا، ثم ارتفع مرة أخرى، ولامس سقف 7 جنيهات، ليستقر عند 6 جنيهات و20 قرشا في ذلك الوقت، بعدما كان 3 جنيهات و40 قرشا.
تعويم الجنيه للمرة الثالثة في 2016
في نوفمبر من العام 2016، أعلن البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه والتسعير وفقا لآليات العرض والطلب، وإطلاق الحرية للبنوك العاملة النقد الأجنبي عبر آلية الإنتربنك الدولاري، ليصل الدولار عند الشراء بأعلى سعر إلى 14.50 وأقل سعر عند 13.5 جنيه.
التعويم الرابع للجنيه المصري في 2022
مع نهاية أكتوبر من العام 2022، أعلن البنك المركزي المصري عن قرارات جديدة على رأسها، انعكاس سعر الصرف لقيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية الأخرى بواسطة قوى العرض والطلب، في إطار نظام سعر صرف مرن، ليقفز على أثرها الدولار إلى مستويات غير مسبوقة مسجلا 24 جنيها.
الحرب الروسية الأوكرانية
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتأثر إمدادات النفط والقمح وبعض السلع الأساسية بالحرب نشطت السوق السوداء مجددا في مصر وأصبح هناك فارق سعري بين السوق الرسمية والسوق السوداء بما يزيد على 10 جنيهات، لتتبع مصر حينها سياسة السعر المرن بالسوق، ليستقر الدولار عند مستوى 30.80 جنيه بالبنوك، لتنشط السوق السوداء مجددا في النصف الثاني من العام 2023 وتبدأ رحلة سقوط كبيرة لعملة مصر المحلية الجنيه، ليسجل الدولار مع بداية 2024 أكثر من 70 جنيها بالسوق السوداء.
كيف تتم السيطرة على السوق السوداء؟
قال الخبير المصرفي والمحلل الاقتصادي وليد عادل، إن الاقتصاد المصري قد تعرض في الآونة الأخيرة إلى العديد من الصدمات الاقتصادية خاصة بعد تفشي وباء كورونا، وكذلك الحرب الروسية الاوكرانية التي تسببت إلى رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة أكثر من مرة وما تبعه من هروب الأموال الساخنة من الدول النامية للحصول على فرص استثمارية أفضل لدى الدول القوية اقتصاديا، وكانت نتائج ذلك تعرض الاقتصاد المصري لاستنزاف وشح العملات الأجنبية لا سيما الدولار، ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة المصرية نتيجة التعويم المتوالي منذ أكتوبر 2022 وحتى أبريل 2023.
ووضع عادل 10 محاور من شأنها المساهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية والحد من نشاط السوق السوداء، بسبب ارتفاع سعر الدولار والذهب هنا بعض الإجراءات التي يمكن اتخاذها التي ممكن أن تؤدي إلى تعزيز الإصلاح الاقتصادي، مضيفاً أن أول هذه المحاور هي تعزيز الاستقرار الاقتصادي، وهناك ضرورة واجبة على الحكومة باتخاذ إجراءات لتعزيز الاستقرار الاقتصادي العام، مثل الحفاظ على التضخم في مستويات معقولة وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام، بالإضافة إلى تحسين بيئة الأعمال وتقليل العقبات التي تواجه المستثمرين، مثل الإجراءات البيروقراطية الزائدة والفساد، كما يمكن أن تشجع الحكومة الاستثمار الأجنبي المباشر وتوفير المزيد من الفرص الاستثمارية.
ضرورة ملحة لتعزيز الصادرات
وأضاف أن هناك ضرورة ملحة لتعزيز الصادرات، وتشجيع الصادرات بمختلف الوسائل الممكنة، من خلال تقديم تسهيلات للشركات المصدرة وتطوير البنية التحتية اللازمة وفتح أسواق جديدة للتجارة الخارجية.
كذلك طالب عادل بتفعيل مكافحة الفساد عن طريق تعزيز الشفافية في القطاع العام والخاص، ويمكن تعزيز إجراءات مكافحة غسل الأموال وتعزيز هياكل الرقابة وتعزيز العدالة وتطبيق القانون، مع التماشي في تعزيز التعليم والتدريب والاستثمار فيهما لتطوير قوى العمل المحلية وزيادة فرص العمل.
وأشار عادل، إلى أن تعزيز الشمول المالي أمر في غاية الأهمية ولا بد من الوصول إلى الخدمات المالية للشرائح السكانية المختلفة، مثل تعزيز البنوك الصغيرة والمتوسطة وتعزيز التمويل الريفي وتعزيز التكنولوجيا المالية والتحويلات المالية الرقمية، جدير بالذكر أن الأزمات الاقتصادية تحتاج إلى حلول شاملة ومتعددة الأوجه، وتحقيق التغييرات والتحسينات قد يستغرق وقتًا ويجب أن تتعاون الحكومة والمؤسسات المعنية والمجتمع بأسره لتنفيذ هذه الإجراءات والحلول والعمل معا نحو تعزيز الاستقرار الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.
نرشح لك : نجيب ساويرس يقترح حلولا لأزمة الدولار ..محاولة لعلاج ازدواجية سعر الصرف