مقالات

د. طاهر المنيفي يكتب: من لم يبك على تاريخنا ونكباته منذ زمن حق له البكاء ها هنا!!

لو أتيح لزائر سماوي أن يمر على الأرض قبل ألف سنة  من غير أن يعرف أي لغة أو ثقافة أو دين، وتفقد الأرض والناس والوقت والعمل، فلسوف يتشكل في ذهنه انطباع واضح من جراء تكرار المناظر، أن هذا العالم ليس عالماً واحدا بل عالمين، وأن هناك خطان واضحان يفصلان الناس في الكرة الأرضية، تماماً مثل خطوط الطول والعرض، وخط الاستواء ومدار الجدي والسرطان، ولكنهما ليس خطان جغرافيان بل خطان حضاريان متميزان، أو لنقل محوران للشمال والجنوب: يمتد الخط أو المحور الأول على طول طنجة ـ جاكرتا، ويربط الثاني بين موسكو ولندن!

المحور الأول (طنجة ـ جاكرتا)

يملك الثروة والعلم والقوة العسكرية، ناشط اقتصادياً، تمر عبر أراضيه خطوط التجارة الدولية، وتزدحم أسواقه بالبضائع والناس والمال معاً، في أعظم دينامية اقتصادية عرفتها أسواق المال، وتزدان بيوته بكتب العلم والثقافة العالمية والترجمات المنوعة، ومجالسه بالبحث العلمي والمناظرات، على الطريقة التي سجلها لنا مثقف ذلك العصر أبو حيان التوحيدي، في كتابه (الإمتاع والموآنسة)، ومدارسه التي تقيس محيط الكرة الأرضية، وتخطط لانتقاء أفضل مكان لبناء بيمارستان (مستشفى) بتجربة صمود اللحم للفساد، وتمتلك دوله الجيوش النظامية المتطورة، ويتحرك في مدنه بشر فعَّالون بوجوه تفيض بالجمال والحيوية، يرتدون الملابس النظيفة الجميلة، تفوح منهم رائحة العنبر والصندل.

وفي مدينة مثل بغداد يعالج فيها أكثر من 800 طبيب في عشرات البيمارستانات عشرات الآلاف من الناس، الذين ينعمون بالرفاهية، ويرتادون الحمامات العامة بشكل دوري، ويعنون بالنظافة والجمال، وتشع منهم الزينة ويتبارون في التأنق في المأكل والملبس، ويقضون الكثير من الوقت في مجالس العلم والرحلات، كما خلدها الأدب العربي في قصص السندباد البحري، ومجالس الظرف والفكاهة، وعجائب الأسفار وغرائب الحوادث، في قصص ألف ليلة وليلة، وكتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني ومعجم البلدان لياقوت الحموي.

كتاب الثقافة العالمية وسطور الحضارة كانت تكتب في ذلك الوقت بخط ولغة من اليمين إلى الشمال (3)

 المحور الثاني على خط لندن ـ موسكو

يعيش أكثر شعوب العالم فقراً وتخلفاً، يهرب منهم ابن بطوطة، ويعتبرهم شعوبا غثاء لا يستحقون الزيارة، فبعد مقابلته لإمبراطور القسطنطينية قال ليس في الغرب إلا الوحل والغابات والظلام!!

مدن ينتشر فيهم الطاعون فيحصد ثلث السكان على الأقل، في أحياء قذرة لا تعرف نظام التصريف الصحي والحمامات بعد، يطاردون الساحرات والقطط، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير، ويشترون تذاكر لدخول الجنة، ويحرقون العلماء والكتب معاً في الساحات العامة، بتهمة الهرطقة والزندقة.

مدن تزدحم بالشحاذين على الطريقة التي وصفها الروائي الفرنسي (فيكتور هوجو) في قصته العالمية المشهورة (أحدب نوتردام)  ويُعالج المريض النفسي بالسلاسل والضرب بالكرباج، لاستخراج الأرواح الشريرة من جمجمته، وينسب انتشار الأمراض إلى البروج والكواكب أو اليهود! فيخرج الناس على شكل طوابير، تطوف البر، تضرب نفسها بالسوط لدفع المرض، أو تحرق اليهود والساحرات والقطط معاً في الساحات العامة، وتتحرك من وسطه أفواج من الحجاج الفقراء لزيارة القدس، أو عصابات صليبية مفلسة، يقودها رجال أمُّيون من طراز ريتشارد قلب الأسد، ويضحك البابا لاكتانتيوس أشد الضحك على الذين يزعمون أن الأرض كروية فيقول:

هل جُنَّ الناس إلى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار والناس تتدلى من الطرف الآخر؟!  في صورة حضارية (كاريكاتورية) تعجز عنها ريشة أعظم فنان!!

وبعد ألف سنة بالضبط يصاب الزائر السماوي بالدوار وجحوظ العينين، ويبدأ ليمشي على رأسه حتى يفهم قراءة الخطوط من جديد؟!

ذلك أن الشمال تحرك إلى الجنوب، وتزحزح الجنوب فاستقر في الشمال في معادلة معكوسة جداً.. محور طنجة ـ جاكرتا يزدحم بشعوب فقيرة هزيلة عاجزة عن حل مشاكلها، يشكل العالم الإسلامي فيها وزناً كبيراً، قد خسرت الرهان العالمي، وطُوِّقت بحضارة رأسمالية غربية، ذات إدارة موحدة، تُحْكِم قبضتها على الكرة الأرضية كلها، للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، مسلحة بالصواريخ النووية ومصارف المال ومراكز البحث العلمي…. وانقلب خط الشمال ليمتد هذه المرة فيملك أربع قارات جديدة، ويضع يده على ممرات الملاحة البحرية، ومعها الثروة العالمية، ويمتلك الجيوش النظامية المتطورة، التي فاجأت فرسان المماليك عند سفح الأهرام، مع نهاية القرن الثامن عشر، ومعها الأسلحة المتطورة من البنادق والمدفعية، بالإضافة إلى التقنية الحربية الرفيعة.

كتبت الحضارة هذه المرة من الشمال الى اليمين

وتمثل مجلة الشبيجل الألمانيةلهذا الانقلاب العالمي بعنوان (عالم منكوس)VERKEHRTE WELT) وتمثل لهذا بكمية الاستهلاك العالمية للطاقة، حيث تحتل أمريكا الشمالية رأس القمة؛ فتستهلك ثلث ما يستهلكه جميع البشر على وجه الكرة الأرضية (2212 مليون طن) وتأتي أوربا في المقام الثاني إلى (1407 مليون طن) وتأتي دول أوربا الشرقية في المقام الثالث (1685 مليون طن) وتنكمش قارة أفريقيا كلها في هذه الخريطة إلى ما يعادل استهلاك اسبانيا، وعندما نَفَخت الصورةُ أمريكا، أو بالعكس انكمشت حجم الدول إلى مقدار استهلاك الطاقة، فإن صورة العالم تحولت إلى كائنات عملاقة، يسكنها الرجل الأبيض، وتحولنا نحن والأفارقة إلى كائنات قزمة وذيول تابعة لكائنات خرافية ديناصورية تتمدد على خط الشمال(7) المحور الذي سماه سابقاً المفكر الجزائري مالك بن نبي (واشنطن ـ موسكو)

والسؤال كيف حدث هذا الانقلاب الصاعق ومتى؟

في عام (1099 م) قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفاً من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الإسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب!!

ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي، قطعان الذئاب البشرية المدربة المحمولة على ظهر الخيل، وذراع الكماشة الغربي كانت أوربا الفقيرة القذرة.

فأما الإعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله إلى رصيد إسلامي، وأما ذراع الكماشة الغربي؛ فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيراً، ولعله لن يعرف في المستقبل حرباً تدوم مائتي عام بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوربا الأميُّون.

وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الإسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت للتو، ومن زاوية لا تخطر على بال أحد، ولا توحي مظاهرها بذلك.

سقوط مدينة طليطلة كمؤشر لانكسار الميزان التاريخي

إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاماً (1085 للميلاد) عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية (طليطلة ـ توليدو حالياً ـ TOLIDO) بيد الفونسو السادس بعد حصار دام سبع سنوات(8).

وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقاً على عروشهم البئيسة أمام الزحف الاسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب إلى الدولة القوية المرابطية حديثة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين (يوسف بن تاشفين) ليقول المعتمد بن عبَّاد حاكم اشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الأسبان وسنديان المرابطين:

إن لم يكن بد من التحول إلى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الأسبان.

كان المعتمد بن عبَّاد شريفاً على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي، وبقي قبره في (أغمات) خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي..

مات (المعتمد) قهراً وغماً في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده (اعتماد) التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك الذي نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب.

ولقد زرت المكان في ربيع عام 2009م حيث بكيت على قبره مجددا وقبر ابنه الربيع ثمرة الحب بجنبه حبيبته الرميكية اعتماد، وحول قبرهما يتناثر الشعر:

وقف المرشد يقرأ لي عند حافة القبور الثلاثة وأنا أغالب دمعة طفرة من عيني فلم أستطع لها إمساكا؛ قال انظر إلى هذا الشعر إن مقدمة حروف أبياته تجتمع فتشكل كلمة اعتماد، فهل هناك حب أعظم بين هذين الإنسانين!

أغائبة الشخص عن ناضري وحاضرة في صميم الفـؤاد

عليك السلام بقدر المــسجون ودمع الشؤون وقدر السهاد

تملكت مني صعب المــــرام وصادفت ودي سهل القيــاد

مرادي لقياك في كل حيــــن فياليت أني أعطى مـــرادي

أقيمي على العهد بيننــــــــا ولا تستحيل لطول البعــــاد

دسست اسمك الحلو في طي شعري

وألفت فيه حروف اعتمـــــاد

(تأمل الكلمات الأولى من الأبيات؟أغائبة + عليك + تملكت + مرادي + أقيمي + دسست) فمن مجموع بداية الكلمات تتراكب من الحروف اسم اعتماد التي يحبها!

وهناك وقفت أنا على قبرهما أبكي بخشوع، وأقرأ بالخط المغربي الأبيات الأخيرة التي سطرها وأكاد لا أتبين الأحرف بين دموعي؛ وهي تنساب كموج نهر يتلوى ليموت في لجة المحيط..

علل فؤادك قد أبل عليـــــــــــــل واغنم حياتك فالبقاء قليــــــل

لو أن عمرك ألف عام كامــــــــل ما كان حقا أن يقال طويـــــل

أكذا يقود بك الأسى نحو الــردى والعود عود والشمول شمول

بالعقل تزدحم الهموم على الحشا فالعقل عندي أن تزول العقول

نحن مازلنا نعاني من مشكلة فهم تعقيدات هذا العالم الجديد المسحور، ومعاناة ضريبة التكيف معه، لأنه عالم لم تصنعه يدانا، فنحن أمام سحر جديد لم نقدر على فك طلسمه بعد، والتعامل مع ملك الجان.

طاهر المنيفي

تقرير دكتور طاهر المنيفي

نائب رئيس المجلس الأعلى للاقتصاد العربي الافريقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
البنك الأهلى المصرى