بنوك

اقتراب النفط من 100 دولار تحذير للبنوك المركزية في معركة التضخم

في الوقت الذي تتجه فيه السياسة النقدية العالمية نحو الإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة لفترة طويلة، يرزح الاقتصاد العالمي تحت عبء موجة جديدة من الاضطرابات في ظل ارتفاع أسعار النفط.

يُعد اقتراب سعر النفط من 100 دولار للبرميل بمثابة تحذير للبنوك المركزية من أن حقبة تقلب الأسعار التي بدأت مع الجائحة والحرب في أوكرانيا، لم تنتهِ بعد.

يوضح ارتفاع أسعار النفط كيف تأثر موقف “الإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة لفترة طويلة” الذي أشار إليه رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول، في مؤتمر جاكسون هول الشهر الماضي، بشكل أكبر بما وصفته نظيرته في منطقة اليورو، كريستين لاغارد، خلال المؤتمر ذاته بأنه “حقبة التغيرات والاختلالات”.

السؤال الذي سيواجهه مسؤولو البنوك المركزية من لندن إلى واشنطن هذا الأسبوع، هو ما إذا كان الارتفاع الذي تشهده أسعار النفط حدثاً عارضاً، أو أنه سيستمر لفترة أطول، ذلك لأن النفط قد يحفّز زيادة أسعار المستهلكين، وقد يكبح النمو الاقتصادي. ستختبر المفاضلة بين الاختيارين إجماع الآراء الوليد المنتشر بين المسؤولين على احتوائهم لمخاطر التضخم بالقدر الكافي للتوقف مؤقتاً عن التشديد النقدي في الفترة الحالية.

آثار سلبية

كتب داريو بركينز، المحلل الاقتصادي لدى شركة “غلوبال داتا تي إس لومبارد” (GlobalData TS Lombard)، في تقرير: “الارتفاع الأحدث في أسعار النفط مُضر بشكل كبير. رغم ذلك، من المهم إبقاء المستجدات التي حدثت في التضخم في الآونة الأخيرة في سياقها. لم نواجه بعد خطر تقويض التقدم القوي في خفض معدل التضخم الذي أحرزناه في 12 شهراً، بل أننا لم نقترب حتى من تلك المرحلة”.

بلغ سعر خام برنت أعلى مستوياته في 10 أشهر عند ما يقارب 95 دولاراً للبرميل؛ إذ أدى خفض السعودية وروسيا إمداداتهما النفطية مع تحسن التوقعات الاقتصادية للولايات المتحدة والصين، إلى ارتفاع الأسعار.

بالنسبة إلى مسؤولي البنوك المركزية، قد يُعد هذا الارتفاع في أسعار السلع الأولية تحذيراً فورياً. كشف مسؤولو صندوق النقد الدولي في بحث جديد درَس أكثر من 100 صدمة تضخمية منذ السبعينيات، أن ارتفاع أسعار المستهلكين تباطأ بشكل مستمر خلال 5 سنوات في 6% فقط من الحالات.

إذا كان هذا الارتفاع يعني في نهاية المطاف بلوغ متوسط سعر النفط 100 دولار للبرميل خلال الربع الأخير من العام الجاري، فقد يبلغ أكبر تأثير له 0.9% على معدل التضخم في الولايات المتحدة، وفقاً لتوقعات “بلومبرغ إيكونوميكس”. أما في منطقة اليورو والمملكة المتحدة، فسيقارب التأثير 0.4%.

“ارتفاع أسعار النفط سيكون أحد العوامل التي تأخذها كل البنوك المركزية في الحسبان، مع بدء تحرك الآثار التضخمية في الاتجاه الخاطئ”، بحسب براد بيشتيل، المدير العالمي للعملات الأجنبية في شركة “جيفريز” (Jefferies LLC) في نيويورك.

ارتفاع معدل التضخم بوتيرة أسرع، سيوجه ضربة كبيرة لسوق السندات، التي تراهن على إبقاء “الاحتياطي الفيدرالي” على أسعار الفائدة المرتفعة لفترة طويلة لإعادة معدل زيادة الأسعار إلى المستوى المستهدف.

ارتفعت عائدات سندات الخزانة لأجل سنتين بأكثر من 30 نقطة أساس منذ مطلع الشهر الجاري، وجرى تداولها في يونيو قرب أعلى مستوياتها في 16 عاماً. أما عائدات السندات الألمانية، فارتفعت بنحو 25 نقطة أساس خلال الشهر الجاري فقط، لتقترب عائدات السندات لأجل 10 سنوات من أعلى مستوياتها منذ 2011.

تخيّم هذه المخاوف على أسبوع محوري بالنسبة إلى السياسة النقدية العالمية، مع استعداد “الاحتياطي الفيدرالي” لوقف التشديد النقدي مؤقتاً يوم الأربعاء، رغم تلميح محتمل باتخاذ مزيد من الإجراءات.

المركزي الأوروبي يشير إلى توقف مؤقت
يوم الخميس، قد يسلك “بنك إنجلترا”، وبنك النرويج المركزي، و”ريكسبانك” (البنك المركزي السويدي)، والبنك السويسري الوطني، المسار ذاته، فيما قد تصبح إما الزيادة الأخيرة أو قبل الأخيرة في تكاليف الاقتراض، والتعهد بالإبقاء عليها مرتفعة.

يُستبعد أن يتخذ “بنك اليابان” يوم الجمعة أي إجراءات كبيرة، لكن يبدو أنه يجري وضع أساس لقرارات التخلي عن آخر سعر فائدة أساسي سالب بين الاقتصادات الكبرى بشكل نهائي.

في الأسبوع الماضي، أشار “المركزي الأوروبي” إلى توقف مؤقت بعد قرار اتخذ بفارق ضئيل في عدد الأصوات برفع أسعار الفائدة مرة أخرى، في خطوة ربطها كبير المحللين الاقتصاديين السابق في البنك، بيتر برايت، مباشرة بارتفاع أسعار النفط. فقد قال لتلفزيون “بلومبرغ” بعد القرار: “المستهلكون والعائلات أكثر تأثراً بأسعار النفط والغذاء؛ ولذا، أظن أن المركزي الأوروبي أصاب بإشارته إلى التوقف المؤقت عن رفع أسعار الفائدة”.

زادت توقعات معدل التضخم في أوروبا، وتراهن السوق على أن أسعار المستهلكين سترتفع بمتوسط 2.4% خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، بمعدل أكبر من مستهدف “المركزي الأوروبي”، وارتفاعاً عن متوسط أقل من 2% قبل شهرين.

يرى البنك المركزي الأسترالي مخاطر ارتفاع أسعار الغذاء والنفط خلال الأشهر المقبلة على التضخم العالمي، وفقاً لمحضر اجتماع مجلس إدارة البنك الذي عُقد في 5 سبتمبر ونُشر الثلاثاء. يُتوقع أن يؤدي ارتفاع أسعار الوقود إلى زيادة معدل التضخم الكلي المحلي خلال الربع الثالث من العام الجاري.

لا يزال “بنك الاحتياطي الأسترالي” يتوقع تراجعاً طفيفاً في الأسعار الأوسع نطاقاً، رغم استبعاد عودة معدل التضخم إلى نطاق 2-3% المستهدف قبل أواخر 2025. يخشى المحللون الاقتصاديون من أن البنك سيتعيّن عليه أن يرفع توقعاته الاقتصادية، المستندة حالياً إلى سعر خام برنت عند 80 دولاراً للبرميل، وهو أقل بكثير من السعر الحالي عند 95 دولاراً للبرميل.

مخاطر على النمو

المخاطر تظل قائمة في كلتا الحالتين. فقد أوضح “بنك إسبانيا” المركزي هذا الخطر، وحذر يوم الثلاثاء من ارتفاع التضخم بوتيرة أسرع مما توقع في العامين الجاري والمقبل نتيجة لارتفاع أسعار النفط، في حين سيتراجع معدل نمو الاقتصاد أيضاً كما قال.

أفضت هذه المخاوف إلى انخفاض اليورو إلى أدنى مستوياته في 6 أشهر الأسبوع الماضي، مع مراهنة الأسواق على عدم قدرة الاقتصاد الأوروبي على تحمل أسعار الفائدة المرتفعة. يُرجّح المضاربون خفض أسعار الفائدة أكثر من مرتين بمقدار ربع نقطة مئوية في العام المقبل، متجاهلين توجيه “المركزي الأوروبي” بالإبقاء على تكاليف الاقتراض مرتفعة لفترة طويلة.

في العام الماضي، دخلت القارة أزمة فعلية بعد قطع إمدادات الغاز الروسي عنها، وشهدت تدهور اليورو مقابل الدولار. ولم يُحدد بعد كيف ستتعامل مع الوضع في العام الجاري في حال كان هناك ارتفاع أكبر في الأسعار.

تمثل توقعات النمو مصدر قلق لكبيرة المحللين الاقتصاديين في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، كلير لومبارديلي، حيث قالت للصحافيين يوم الثلاثاء، إن التأثير سيمثل ضغطاً على ميزانيات الأُسر والطلب، وإن أوروبا ستعاني أكثر من الولايات المتحدة، نظراً لاعتمادها على واردات الطاقة.

تشير الضرائب في أوروبا إلى حساسية أقل لتغير التكلفة مقارنة بالولايات المتحدة. ففي العام الماضي، كانت أسعار البنزين بمحطات الوقود في ألمانيا والمملكة المتحدة، ضعف نظيرتها في الولايات المتحدة تقريباً.

ربما يخشى مسؤولو “الاحتياطي الفيدرالي” من أن يكون التأثير في النمو أكبر منه في التضخم. فنموذج البنك المركزي يشير إلى أن صُناع السياسة النقدية يفضلون، بقدر طفيف، التعامل مع ارتفاع أسعار السلع الأولية بخفض أسعار الفائدة عن رفعها.

قالت مايا بانداري، مديرة الأصول المتعددة بشركة “بي إن بي باريبا أسيت مانجمنت يو كيه” (BNP Paribas Asset Management UK) لتلفزيون “بلومبرغ”: “سيكون للأمر تأثير حقيقي في جانب النمو في المعادلة المتوازنة، عوضاً عن التأثير في جانب التضخم، في المدى الطويل”.

أما في الولايات المتحدة، فيأتي الارتفاع في أسعار النفط في فترة تُظهر فيها ميزانيات المستهلكين دلائل على الإجهاد المالي. فمستحقات الفوائد تلتهم الجزء الأكبر من الدخل القابل للإنفاق، فيما أوشك فائض المدخرات التي وُفرت خلال الجائحة على النفاد.

ارتفاع أسعار الطاقة سيساعد على خفض الإنفاق الاستهلاكي، ما سيقلل من حاجة البنك المركزي لمواصلة التشديد النقدي. سيكون مسؤولو “الاحتياطي الفيدرالي” في حالة تأهب قصوى في حال ظهور أي دلائل على أن توقعات التضخم تتجه للارتفاع، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.

في الفترة الحالية، لا تتوقع “بلومبرغ إيكونوميكس” أن يُجبَر صُناع السياسة النقدية على التعامل مع الأمر بطريقة أو بأخرى.

كتبت آنا أندرادي وجايمي راش في تقرير: “تلمّح النماذج القياسية إلى أن صُناع السياسة النقدية يتوقعون هذا النوع من الصدمات السعرية على الأرجح. حالتنا الأساسية هي أن الصدمة ليست كبيرة بما يكفي لتغيير توقعات أسعار الفائدة”.

لتحديد استجابتها، لا تزال البنوك المركزية تحتفظ بالذكرى المريرة للسبعينيات، عندما أدى تقييد الإمدادات إلى صدمات سعرية مطولة، عانت بسببها الاقتصادات المتقدمة من تضخم مستمر وتدهور معدل النمو.

في ظل ذلك، ومع إشارة بعض صُناع السياسة النقدية إلى أن السؤال الأساسي حول أسعار الفائدة في الفترة الحالية ليس مدى ارتفاعها، بل فترة بقائها مرتفعة، فإن السؤال ذاته ينطبق على كيفية حدوث أي زيادة محتملة في أسعار النفط.

قال تشارلز سيفيل، المحلل الاقتصادي بوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني (Fitch Ratings) في لندن، في مقابلة: “البنوك المركزية لا تستطيع اتخاذ أي إجراء حيال تلك الصدمات السعرية قصيرة الأجل المدفوعة بالطلب، لكن يمكنها اتخاذ إجراء للسيطرة على التوقعات. هذا هو الفرق الكبير عما حدث في السبعينيات. لدينا الآن بنوك مركزية يحفل سجلها بإعادة التضخم إلى المعدل المستهدف أكثر من مرة”.

اقتصاد الشرق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
البنك الأهلى المصرى