منوعات

الشعراء المكفوفين وإسهاماتهم في الشعر العربي

حَفل الموروث الشعري العربي بنتاج هائل لا نظير له من الأعمال الشعرية لشعراء استطاعوا أن يحفروا لأنفسهم كوة نطل من خلالها اليوم على تاريخ ثقافي وأدبي طويل كتبوه بمداد من نور، وتفيض الكتب والمراجع التاريخية بسير هؤلاء الشعراء وأعمالهم وإسهاماتهم، ومن خلال هذا المقال نتعرف على دور العاهة في إبداع هؤلاء الشعراء، ومدى انعكاس العمى وتأثيره في شخصيتهم وأشعارهم، وطبيعة التصوير الحسي في أشعارهم، وأبرز إسهاماتهم في الشعر والثقافة العربية، ومن أبرز هؤلاء الشعراء موضوع حديث هذا المقال بشار بن برد، وأبي العلاء المعري، والطليلي.

العاهة دافع للإبداع

تصبح العاهة في كثير من الأحيان عائق أمام الإنسان الذي يستسلم لها ويقف أمامها طويلاً منتظراً من يساعده وينشله منها، وفي أحيان أخرى تصبح دافع لتحقيق طموحات وأحلام لم يكن للإنسان أن يحققها أو يصل إليها لو كان مبصراً، وها ذا بشار بن برد الشاعر “الأكمه” الذي لم يرى النور يوماً في حياته، وكان كذلك قبيح الوجه ضخماً عظيم الخلق والوجه، مجدوراً طويلاً جاحظ المقلتين، فكان أقبح الناس عمى، وأفظعهم منظراً بحسب المجلد الثالث من كتابه “الأغاني” لـ أبو الفرج الأصفهاني، وكما قال هو عن نفسه:

عُميت جنيناً والذكاءُ من العمى     فجئت عجيب الظن للعلم موئلا

فلم يستسلم بشار بن برد لعاهته بل كان العمى دافعاً لتقوية قدراته الأخرى والاعتماد على باقي الحواس كحاسة السمع والتفكير العقلي، كما كانت العاهة دافعة له للتفوق على أقرانه المبصرين، لذلك كان بشار دائم التفكير فيما يستعيض عما حرم منه، فكان شاعر بارع في الهجاء والغزل والمديح وغيره من ألوان الشعر العربي الذي أسهم فيه أسهاماً واضحاً، أما الشاعر الأندلسي أبو جعفر أحمد بن عبد الله التطيلي الذي يعد من أشهر شعراء عصر المرابطين لم يمنعه فقدان بصره من الانطلاق إلى آفاق المجتمع الأندلسي والاندماج فيه والانطلاق إلى ميادينه الثقافية والشعرية المختلفة، إلا أن عقدة العمى كانت تلازمه في نفسيته وحياته، وقد عبر عنها لخلجات نفسه في أنماط نفسية، ومع ذلك لم يستسلم للعاهة وسلك سلوكا تعويضياً متحدياً عجزه، ومحاولاً الاندماج في عالم المبصرين بقدر ما يستطيع.

أثر البيئة في أدب المكفوفين

إن من ابرز الآثار التي خلفها العمى في شخصية الشعراء المكفوفين أنهم مالوا إلى الاعتداد بأنفسهم، إذ يرفع العمى من قدر أنفسهم تعويضاً عن النقص، كذلك كان للعمى دوراً هاماً في تقوية حاسة السمع لديهم، إذ يتخذونها بديلاً عن البصر ويحاولون بها تعويض النقص في حياتهم، أما بالنسبة لبشار بن برد فكان شديد المفاخرة بفصاحته وشاعريته، وقد امتلك ناصية البيان، بسبب رحيلة إلى البادية في مقتبل عمره، وتعرف على أصول اللغة هناك لأن البادية قد حافظت على نقاء لغتها بعيداً عما شابها من ألفاظ دخيلة، كما أقام في بادية البصرة مدة من الزمن قويت فيها سليقته العربية وصقلت موهبته الشعرية، وكان بن برد على اتصال بعلماء اللغة في ذلك العصر، ومن الشواهد على مفاخرته قول أحمد بن المبارك عنه : حدثني أبي قال : قلت لبشار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه ما استنكرته العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه قال : ومن أين يأتيني الخطأ وولدت ههنا ونشأت في حجور ثمانين شيخاً من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم.

وكان بشار شديد الهجاء سليط اللسان، وهجا بشار معارضية ومعاصريه، وكانوا يبكون في كثير من الأحيان خوفاً من لسانه، وكان العمى محرك بشار الأساسي للاهتمام بشعر الهجاء الذي وجد من خلاله ذاته، وسعى به لينال من خصومه، ويدرك به حاجاته، بعد أن طوقته طبيعته بالعمى، فكان العمى في بعض الأحيان وسيلته للدفاع عن نفسه ضد من يستهزئون به ويتهمونه بالعمى والقبح الذي انعكس على سلوكه فنجده متخبطاً في موالاته فتارة يلوذ بالعب وتارة يلوذ بالفرس، واستخدم بشار الهجاء كأداة للتكسب حيث جعله العمى عاجزاً عن إدراك حاجاته كالمبصرين: ويقول عن نفسه “إني وجدت الهجاء المؤلم آخذاً بطبع الشاعر من المديح الرائع، فليبالغ في الهجاء ليُخاف فيعطى”، وعلى ذلك نجد بشار اتخذ من لسانه أداة للقتل والبطش، وهو الأعمى الذي لا يستطيع أن يقتل أو يبطش حقيقة، ومن ثم هيأت له فطرته وأعانته سليقته على الهجاء، كما كان لعمى بشار أثر في غزله، حيث استغل عماه كمعطية للغزل، وذلك لأن الأذن تعشق قبل العين:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة        والأذن تعشق قبل العين أحيانا

أما أبا العلاء المعري فكان شأنه كشأن أي شاعر ومؤلف آخر له خصائص في شعره ونثره وكتاباته بفعل البيئة التي عاش فيها وغير ذلك من العوامل الأخرى ، من أهم خصائص شعر وكتابات المعري الاشتمال على الأمثال والحكم والحكمة، وخصوبة الخيال، وتصويره للتاريخ والحوادث التاريخية، ورجال العرب الذين اشتهروا بفعل حوادث تاريخية مشهورة، كما أن كتاباته تميزت بالأسلوب الساخر والمتهكم، ولا يفوتنا أن نقول أن أبرز ملامح وخصائص ما شعر و كتب أبو العلاء المعري النظرة التشاؤمية التي يحملها شعره أو نثره.

أبرز الشعراء المكفوفين

بحسب كتاب (الصورة البصرية في شعر العميان : دراسة نقدية في الخيال والإبداع، النادي الأدبي بالرياض، 1996) لعبد الله الفيفي فإن من أبرز الشعراء المكفوفين الذين أسهموا في الشعر العربي:

بشار بن برد (95-167هـ = 714-784م) من طخارستان من سبي المُهلب بن أبي صفرة، ويكنى بشار أبا معاذ، ولد أعمى (أكمه)، وكان شاعراً مجيداً مُفلقاً ظريفاً محسناً، خدم الملوك وحضر مجالس الخلفاء وأخذ فوائدهم، وكان يمدح المهدي ويحضر مجلسه، وكان يأنس به ويدنيه ويجزل له في العطايا، وكان صاحب صوت حسن ومنادمة، حتى وشى به بعض من يبغضوه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي.

علي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي “العكوك” (160-213هـ) يكنى أبا الحسن، ويلقب بالعكوك، من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد، وبها نشأ، وولد بالحربية، وكان أكمه، استنفذ شعره في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي، وهو شاعر مطبوع عذب اللفظ جزلة لطيف المعاني مداح حسن التصرف، وقيل إن المأمون الرشيد طلبه حتى ظفر به فسل لسانه من قفاه حتى مات.

أبو العلاء أحمد بن عبد الله “المعري” (363-449هـ = 973-1057م) من أهل محلة النعمان من بلاد الشام، كان غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية الفهم عالماً باللغة حاذقاً بالنحو جيد بالشعر جزل الكلام شهرته تغني عن صفته وفضله ينطق بسجيته، اعتل بالجدري التي ذهب فيها بصره وهو ابن ثلاث سنوات، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومات في بيته سنة تسع وأربعين وأربعمائة ببلاد الشام.

الحصري، أبو الحسن علي بن عبد الغني القيرواني المتوفي سنة 415- 488هـ، أديب، وشاعر، ولد أعمى في القيروان، ودخل الأندلس ومدح ملوكها، وتوفى بطنجة، ومن أعماله “اقتراح القريح واجتراح الجريح – المستحسن من الأِشعار، القصيدة الحصرية في قراءة نافع، ديوان شعر ومعشرات الحصري.

التطيلي، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن أبي هريرة أبو العباس القيسي التطيلي الاشبيلي الضرير المعروف بالأعمى المتوفي سنة 525هـ، الذي يُعد من أشهر شعراء عصر المرابطين، ولم يمنعه فقدان بصره من الانطلاق إلى أفاق المجتمع الأندلسي والاندماج فيه والانطلاق إلى ميدانه، إلا أن عقدة العمى كانت تلازمه في نفسيته وحياته عبر عنها لخلجات نفسه في أنماط نفسه.

دور حاسة السمع كبديل عن البصر في شعر المكفوفين

تساعد حواس الإنسان جميعاً على تشكل الصورة لديه، بعد أن تنتقل خلال إحداها أو معظمها إلى الذهن لتستقر فيه، أي أن هذه الحواس كلها أو بعضها تدرك عناصر التجربة الخارجية فينقلها الذهن إلى الشعر ثم يعيد إحياءها أو استرجاعها بعد غياب المنبه الحسي بطريقة من شأنها أن تثير في صدق وحيوية الإحساس الأصيل لديه، ولعل حاسة البصر لها الفضل الأول في إمداد الإنسان بالصور، إذ تنقل القدر الأكبر من حصيلة معلومات الحواس المستقبلة، وهي قادرة على التقاط

الصور والإحاطة بالكم والكيف والشكل عن طريق العين، أما بالنسبة للشعراء المكفوفين يقوم برسم صوره الشعرية عن طريق تطوير انتفاعه بالقنوات الباقية الأخرى ومن أهمهم حاسة السمع التي تأتي في المرتبة الأولى بالنسبة لهم، لذلك نجد في أشعار المكفوفين غلبة الصور الحسية كما في شعر بشار والمعري والتطيلي وغيرهم، إذ تكثر لديهم الصور السمعية واللمسية والشمية والذوقية، فبشار بن برد جعله فقدان البصر يستدعي حاسة السمع ويستغلها بطريقة أوقع، وبالتالي حلت حاسة السمع محل حاسة البصر، وأصبحت الأذن أساس النمو العقلي ومنشأ الثقافة الذهنية لديه، والشاعر التطيلي استخدم التعويض كحيلة دفاعية لحل المشكلات النفسية التي واجهها في حياته نتيجة لفقدان البصر، فقام بتعويض فقد حاسة الإبصار بالاعتماد على حاسة السمع تارة، وحاسة الشم أو السمع تارة أخرى، حيث أن الكفيف يميل إلى الاهتمام بالحديث الذي يعتمد على حاسة الكلام وحاسة السمع، كذلك نجد أبا العلاء المعري يستعيض بحاسة السمع على فقد حاسة البصر ويستخدمها في تقوية الذاكرة والتفكير لديه لذا نجده يميل إلى التفكير في أمور منهي عنها حتى اتهمه الناس بالإلحاد وبعدها رجع في رجعة أبا العلاء.

الجوانب التي تميز شعر المكفوفين عن غيرهم

إن المتأمل للغز قياس النسبة ما بين تصوير الأعمى والواقع المبصر فتصم العميان بالوهم أو بالسرقة، وبالعجز والشعور بالنقص في كلا الحالين، وكأنما الفن ليس بأكثر من سباق في رصد المحسوسات، وإعادة تمثيلها للحس كرة أخرى، وأنه لا سبيل للإبداع الفني إلا بالعين والأذن والشم واللمس والذوق، وإن لم نكن ننظر إلى الفن من هذه الزاوية نجد أننا أمام فن شعري حقيقي يقتضي التأمل والوقوف أمامه، وفي شعر المكفوفين نجد مفهوم الصورة البصرية التي تبنى عليها الأشعار لم يعد قاصراً على الصور الوصفية العينية فقط، بل شمل مختلف الصور التي تكون وسيلة استقبالها حاسة البصر سوأ أكانت هذه الصور واقعية أم غير واقعية، وإن الصورة البصرية في شعر المكفوفين لا تتمثل في ضرورة استكشاف النسق النمطي الذي يفترض تميزها به، بل في أنها تعيد المسألة حول عدد من القضايا في نظرية الخيال والإبداع، وهذا ما ظهر جلياً في أشعار بشار بن برد وأبي العلاء المعري والطليلي وغيرهم.

وكان من أثر العمى في شعر بشار أن غلب التقليد على التجديد في كثير من شعره لأنه يعتمد بالدرجة الأولى على موروثة السمعي، حيث أراد بشار أن يحوز إعجاب مناصري الفن القديم فأجرى طائفة من أشعاره يتقرى فيها أساليب الفحول أمثال الأعشى والنابغة الذبياني حتى قرنه بعض النقاد بهما، ومال بشار إلى التوليد لاسيما في بعض تشبيهاته، واستطاع بحسه وذكائه أن يجدد في الصورة البصرية للشعر، ولقد ولد بشار أعمى وما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر المبصرين أن يأتوا بمثله، وكان أقدر من غيره على التصرف في التشبيه، إذ لم يلتزم دائماً بالقوالب التي فرضها الموروث ودأب الشعراء على تداولها، ومن ثم مل سماعها النقاد والمتلقون حقا، وهذا أبي العلاء المعري غير قوافي القصائد وقام بتنزيلها على سائر حروف المعجم خلا حرف الطاء مما يدل على اطلاع كبير لديه وتمكن باللغة والأدب.

إطّلع على المصادر:

ناصر، علاء الدين علي/ أثر العمى في شعر بشار بن برد (مجلة جامعة البعث ؛ مج 36، ع 7، 2017)

جاسم، زياد طارق / أثر العمى في شعر التطيلي : دراسة نفسية (مجلة كلية الآداب ؛ ع 101)

أحمد تيمور باشا / أبو العلاء المعري : نسبه وأخباره-شعره-معتقده (دار الأفاق العربية، 2003)

الفيفي، عبد الله / الصورة البصرية في شعر العميان : دراسة نقدية في الخيال والإبداع، (النادي الأدبي بالرياض، 1996)

كحالة، عمر رضا / معجم المؤلفين : تراجم مصنفي الكتب العربية، ج2، (مؤسسة الرسالة، 1993)

طبقات الشعراء لابن المعتز ؛ تحقيق عبد الستار أحمد فراج (ط. 3، دار المعارف، 1976)

أبي الفرج الأصفهاني علي بن الحسين / كتاب الأغاني (ط. 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1994)

الصفدي، صلاح الدين خليل بن ابيك / نكت الهيمان في نكت العميان، 1911

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
البنك الأهلى المصرى